top of page

مقالات :

نحو الجودة في الإشراف التربوي

المفتش البيداغوجي ونظام الجودة

 

  • مقدّمـة /

في الوقت الذي يشهد فيه الإشراف (التفتيش) البيداغوجي عودة في نشاطه، وإيلاء أهمّية لمكانته في العديد من دول العالم باعتباره من أهمّ آليات قيادة الجودة في المؤسسات التربوية التي أصبحت من أولويات أصحاب القرار السياسي، يعيش قطاع الإشراف (التفتيش) البيداغوجي، عندنا أزمة هويّة مهنيّة سوف أحدّد أبعادها وأوضّح مؤشراتها وملامحها بالنسبة إلى كلّ بعد بالاستناد إلى ما يعيشه المفتشون في عملهم اليومي بعد صدور القانون الأساسي الخاص بعمال التربية 315/08 لسنة 2012 ، وكذلك بالاستناد إلى ما يكتبه المفتشون البيداغوجيون في صفحات التواصل الاجتماعي وما يصرّحون به في مناسبات وأماكن رسمية وغير رسمية وبمقارنة الوضع الراهن للمفتش البيداغوجي بما كان عليه وضع الإشراف (التفتيش) البيداغوجي في الماضي .

والمقصود بالهوية المهنية للمفتش: التصوّر الذي يبنيه عن نفسه في إطار علاقته بعمله وبمسؤولياته المهنية وبالمفتشين الآخرين وبالمدرّسين والتلاميذ والأولياء وبكلّ المتدخّلين في الشأن التربوي. وما دام المحيط التربوي الذي يتحرّك فيه المفتش البيداغوجي متغيّرا فإنّ الهوية المهنية للمفتش في سعي متواصل لاستيعاب المتغيرات الجديدة والتلاؤم معها. لكن عندما يصبح التفاعل مع المعطيات الجديدة عسيرا أو غير ممكن لأنّها تتعارض مع تصوّراته عن المهنة وعن أفكاره ومعتقداته وقيمه وممارساته التي دأب عليها، فإنّ ذلك يخلق أزمة هويّة مهنية لدى المفتش. فالأزمة تنشأ نتيجة انقطاع منظومة من القيم والمعايير والممارسات المهنية التي يشترك فيها المفتشون وتنظّم تعاملهم المهني والاجتماعي مع مختلف الأطراف الذين تربطهم بهم علاقة مهنيّة. وتتسبّب الأزمة في حالة من الاضطراب والتخبّط والغموض مترتّبة عن ضياع المرجعيات السابقة.

  • فما هي ملامح أزمة هوية المفتشين البيداغوجيين في الجزائر؟

  • وما هي أسباب الأزمة؟ وما هي ملامح إصلاح منظومة التفتيش للخروج من الأزمة ؟

 

أبعاد أزمة الهوية المهنية للمفتشين البيداغوجيين ومؤشراتها.

تندرج أزمة الهوية المهنية للمفتشين البيداغوجيين ضمن أزمة عامّة تعيشها البلاد وتعاني منها الهويات المهنية للعديد من القطاعات إن لم تكن كلّها، لوجود علاقة أزمة الهويات الفردية والهويات الاجتماعية بأزمة الدّولة. أزمة الهويات تنشأ عندما تختلّ عوامل الاستقرار والتوازن المادية والثقافية والقيمية في المجتمع وتصبح الدولة عاجزة على المحافظة على أسباب التوازن المجتمعي فيتسبّب ذلك في خلق عوامل تأزّم هويّات الأفراد والمجموعات. فالنزوع نحو الأزمة يتسرّب من الاقتصادي إلى السياسي ثمّ إلى الثقافي حتّى يصل إلى مكوّنات الشخصية بحيث أنّ ما يظهر كأزمة نظام بأكمله ترتبط به ارتباطا وثيقا أزمة هويات.

وتشمل أزمة الهوية المهنية للمفتشين البيداغوجيين عدّة أبعاد منها العلاقة مع المدرّسين، العلاقة مع مديري المؤسسات التربوية، العلاقة مع مصالح المديريات الولائية للتربية، العلاقة مع الوزارة، العلاقة مع العمل، العلاقة مع التكوين، العلاقة مع التجديد البيداغوجي...

  • 1. العلاقة مع المدرّسين:

بدأت علاقة المشرف (المفتش) البيداغوجي للمدارس الابتدائيّة مع المدرّسين تتغيّر سلبا منذ أن حذفت الجوانب الإدارية من مهامّ المشرف (المفتش) البيداغوجي وأصبح دورهم مقتصرا على الجوانب البيداغوجية حتّى أنّ الوزارة صارت تطلق عليهم تسمية المفتشين البيداغوجيين ليقع التمييز بينهم وبين مفتشي إدارة المدارس الابتدائيّة. كانت المهام الإدارية تمثّل جزءا كبيرا من عمل المشرف (المفتش) البيداغوجي. ومنذ صدور القانون الأساسي الخاص بعمال التربية 315/08 ، المتعلّق بضبط النظام الأساسي لسلك التفتيش، انحصر عمل المشرف (المفتش) في الجانب البيداغوجي بعدما كان يتّسع لكلّ جوانب تسيير العمل التربوي بالمدارس. ونتج عن ذلك تقلّص سلطته الإدارية. وانعكس ذلك سلبا على علاقة المدرّسين به. وأصبحتْ ممارسات بعض المعلّمين الذين لا يعترفون إلاّ بالسلطة الإدارية المفقودة لدى المشرف (المفتش) البيداغوجي تتميّز بتحرّر مبالغ فيه أحيانا، يؤثّر سلبا في الإعداد للعمل بالفصل وإنجازه. وأصبح المشرف (المفتش) البيداغوجي يتعرّض أحيانا لمواقف تدلّ على قلّة احترام لسلك التفتيش وحتّى لشخصه. وعندما يتقدّم بتقرير إلى مديرية التربية يطلب ردع المعنيّ بالأمر، لا يُردّ على المشرف (المفتش) البيداغوجي في الغالب، وإذا تمّ الرّد فيكون ذلك بتشكيل لجنة تحقّق في دعوى المشرف (المفتش) البيداغوجي، هل هو صادق أم كاذب؟ وقد تتحوّل الوضعية إلى قضية نقابية ويصبح المذنبُ صاحبَ حقّ وتنتج عن ذلك متاعب كبيرة للمشرف (المفتش) البيداغوجي!

وقد ازدادت هذه الأوضاع سوءا منذ صدور القانون الأساسي الخاص بعمال التربية 315/08 ، واتسعت دائرة التمرّد على القانون لتشمل كلّ المؤسسات التربويّة. وفي هذه المناخات، صار عمل المشرف (المفتش) البيداغوجي عسيرا أكثر من السابق. وصار يعوّل خاصّة على العلاقات الطيّبة والمعاملة الحسنة للمعلّمين والمديرين ويتعمّد المجاملة. ولم تعد المساعدة على تحقيق جودة الفعل التربوي في صدارة اهتمامات المشرف (المفتش) البيداغوجي، لأنّ تحقيق الأهداف المتعلّقة بأمنه وسلامته الشخصية أكثر أولوية.


2. العلاقة مع مديري المؤسسات التربوية

منذ أن أصبح التفتيش الإداري لمديري المدارس من مشمولات مفتش إدارة المدارس الابتدائيّة تقلّصت سلطة المشرف (المفتش) البيداغوجي الإدارية على مدير المدرسة، وانعكس ذلك سلبا على عمل العديد من المديرين الذين لا يجتهدون في عملهم في غياب السلطة الإدارية للمفتش البيداغوجي ولا يتعاونون معه بالقدر الكافي عندما يطلب منهم ذلك في إطار وضعية تربوية تهمّ المدرسة، أو إنجاز دورة تكوينية. وكتعبير على عدم الاهتمام بما ينظمه المشرف (المفتش) البيداغوجي من أنشطة لتحسين نوعية العمل، يتعمّد بعضهم التغيّب على اجتماعات المديرين واللقاءات التكوينية وأشغال اللجان التي يُستدعوْن إليها. وخلال زيارات التقييم والمرافقة والمتابعة للمدرّسين، التي يقوم بها المشرف (المفتش) البيداغوجي للمدارس، يتعمّد بعض المديرين الانشغال بأمور جانبية حتّى لا يرافق المشرف (المفتش) البيداغوجي إلى القسم المعني بالزيارة وحتّى لا يحضر ولو جزءا من الزيارة رفقة المشرف (المفتش) البيداغوجي ليكون مطّلعا على عمل ذلك المعلّم، وحتّى لا يحضر النقاش الذي يلي الزيارة ويدوّن الملاحظات ليتابعها مع المدرّس.


3. العلاقة مع مديريات التربية بالولايات

علاقة المفتشين البيداغوجيين مع مديريات التربية تقوم على المجاملة، لكن تيسير ظروف العمل كثيرا ما يبقى مطلبا دون تحقيق. فالظروف التي يعمل فيها المفتشون صعبة ولا تليق بهم، لكن عندما يطرحون مسألة صيانة مكتب مفتش، أو تجهيز مكتب بوسائل عمل ضرورية، أو ببعض الأثاث اللائق، فإنّ الإجابة غالبا ما تكون عائمة يلجأ فيها رئيس المصلحة إلى سرد صعوبات الإدارة وعدم قدرتها على توفير المطلوب في المدى القريب وضرورة انتظار توفّر الإمكانية.

4. العلاقة مع التكوين.

منذ صدور القانون الأساسي الخاص بعمال التربية 315/08 ، الذي حذفت بمقتضاه المهام الإدارية للمشرف (المفتش) البيداغوجي وما تتضمّنه من سلطة في خدمة العمل التربوي، ضَعُفَ اهتمام العديد من المعلّمين بالتكوين وأصبحت الغيابات في اللقاءات التكوينية التي ينظمها المفتش أمرا عاديّا. وقد تبلغ أحيانا نسب الغيابات أرقاما مرتفعة، ويقع إعلام الإدارة (مصلحة التكوين والتفتيش) بذلك عن طريق قائمات في الغيابات يرسلها المشرف (المفتش) البيداغوجي إلى مديرية التربية. لكن لا شيء يحدث ويتمادى العديد من المعلّمين في الغيابات دون أن تتّخذ الإدارة ضدّهم إجراءات.

وفي اللقاءات التكوينية، يأتي بعضهم فارغ اليدين حتّى من محفظة أو كرّاس للكتابة. وفي نهاية الحصّة يترك بعضهم فوق الطاولة الوثائق التكوينية التي يوزّعها عليهم المشرف (المفتش) البيداغوجي ويغادر قاعة التكوين فارغ اليدين كما جاء.

 

كيف يمكن تجاوز أزمة الهوية المهنية للمفتشين البيداغوجيين؟

يبدو أنّ الاطلاع على ما كتبته منظمة اليونسكو للتربية والعلم والثقافة مفيد للبحث عن حلّ وطني لأزمة قطاع التفتيش، في إطار إصلاح شامل لمنظومة التربية وجعل المشرف (المفتش) البيداغوجي ، من ناحية، يساهم بأكثر نجاعة في تحسين مردود المؤسسات التربوية، ومن ناحية ثانية يشعر بالرضا عن ظروف أدائه لعمله وعن مكانته بين مختلف الفاعلين في المجال التربوي، لأنّه كلّما ازدادتْ درجة رضاه عن ظروف العمل والعلاقات مع مختلف الذين يعملون في التربية كالمدرّسين والإداريين ومع المستفيدين منها كالتلاميذ وأوليائهم والمدعّمين لها كالسلطات المحلّية والمنظمات والجمعيات، ضاعف من مجهوده وارتفعتْ حظوظه في تحقيق نتائج حسنة.

جاء في كتاب رقمي يتكوّن من ثمانية أجزاء صادر سنة 2007 عن منظمة اليونسكو للتربية والعلم والثقافة حول إصلاح التفتيش المدرسي لتحسين الجودة أنّ الغايات الأولى لكلّ نظام تفتيش مدرسي تتمثّل في قيادة الجودة في التربية، أي جودة المدارس والمدرّسين. ويُفترَضُ أنّ هذه القيادة لها تأثير إيجابي على الجودة. ويُعتبَرُ التفتيش مكوّنا من منظومة شاملة لقيادة وتحسين الجودة تشمل آليات أخرى مثل الامتحانات وروائز قيس المكتسبات وممارسات التقييم الذاتي للمؤسسات والمدرّسين. Organisation des Nations Unies pour l’éducation, la science et la culture UNESCO, 2007, La réforme de l’inspection scolaire pour améliorer la qualité, module 1, L’inspection : une composante clé d’un système de pilotage de la qualité, p.3.

منذ أعوام قليلة، نلاحظ عودة الاهتمام بسلك الإشراف (التفتيش) المدرسي وقيادة الجودة في التربية. وتعتبَرُ ظاهرة ترتيب المدارس حسب الأداء والمكانة المتزايدة التي توليها وسائل الإعلام للدراسات العالمية التي تهتمّ بمقارنة نتائج التلاميذ من المظاهر الدالّة بأكثر وضوحا على هذا الاهتمام. وتتنوّع عبارات السياسيين الدّالّة على الاهتمام بالجودة على النحو التالي:

  • مراقبة الجودة، ضمان الجودة،

  • التصرّف في الجودة الكاملة،

  • تطوير الجودة، قيادة الجودة...

ونظرا إلى أنّ مختلف التسميات تغطّي نفس الحقيقة فقد اختارت اليونسكو عبارة قيادة الجودة Pilotage de la qualité. وتفسّر اليونسكو عودة الاهتمام بالتفتيش المدرسي بالاستناد إلى العوامل التالية:

  • لقد أدّى التطوّر السريع لأعداد المتمدرسين إلى تدهور في الجودة. لذلك أصبح تطوير الجودة من أوْكد أولويات أصحاب القرار السياسي. وقد تمّ التعبير عن ذلك في المحاضرات العالمية حول التربية للجميع سنتيْ 1990 و2000.

  •  اتّسع تطبيق القاعدة الاقتصادية التي تهمّ العلاقة الجيّدة بين الجودة والسعر في مختلف قطاعات المجتمع ووصل إلى التربية. وقد أدّى ذلك مزيد تحميل المؤسسات العمومية المسؤولية وتطوّر الاهتمام بالنجاعة efficacité التي تعني القدرة على تحقيق الأهداف إلى اهتمام بالفاعلية efficience التي تعني تحقيق الأهداف بأقلّ التكاليف. ويتطلّب ذلك تركيز آليات مراقبة صلبة.

  • بيّنتْ العديد من الدراسات أنّ من الأسباب الرئيسية لتدهور الجودة في المدارس ضُعف أجهزة قيادة الجودة بما في ذلك إطار التفتيش والمراقبة. لذلك أرجعتْ عدّة دول مصالح التفتيش التي حذفتها منذ سبعينات القرن الماضي. ولذلك أيضا نرى اهتماما متزايدا بإجراءات التفتيش الجيّد.

  • تجد عودة الاهتمام بالتفتيش المدرسي ومراقبة الجودة أيضا تبريرا لها في التوجّه الحالي لفائدة استقلالية المدارس والمدرّسين. لكن هذه الاستقلالية تحتاج إلى مراقبة ودعم لضمان احترام معايير الجودة والعدالة في المنظومة التربوية كاملة.


يتبيّن ممّا سبق أنّ عمل المفتشين يقدّم دعما هامّا للمنظومة التربوية ويساهم في تطوير الجودة بالمدارس. لكن الأزمة التي يعيشها حاليا تحتاج إلى إصلاح في إطار وظيفته كآلية لقيادة الجودة في التربية.

ولتطويع عمل المفتشين البيداغوجيين لحاجيات المنظومة التربوية في بلادنا، لا بدّ من إجراء بعض الدراسات المقارنة لما يقوم به المفتشون في العديد من دول العالم وخاصّة منها التي لها أنظمة تربوية ناجحة ومعرفة مختلف الممارسات التي تجري في إطار قيادة الجودة لتحديد موقعنا الحالي منها وتحديد النماذج التي يمكن أن نستلهم منها للقيام بإصلاح جهاز التفتيش.

وقد ميّزتْ اليونسكو في المرجع المذكور سابقا بين أربعة نماذج لقيادة الجودة تتوافق مع أنماط من التقييم المدرسي:

1. نموذج المراقبة العمومية: Le modèle du contrôle public ou étatique وهو النموذج المستعمل في معظم الدول ويتميّز بالهرمية البيروقراطية الشكلية.

2. نموذج تحميل المسؤولية المهنية Le modèle de la responsabilisation professionnelle تقوم القيادة فيه أساسا على الإجراءات الداخلية مثل التقييم الذاتي من قبل المدرسين والامتحانات من قبل الأقران. وتُعتبَرَ فنلندا التي حذفت مصالح التفقد سنة 1991 من بين الدول التي ناضلتْ من أجل إدخال نظام خاص بتحميل المسؤولية المهنية.
3. النموذج الاستهلاكي: modèle consumériste Le يكون فيه الفاعلون الهامّون الذين يتولّوْن مهمّة القيادة هم المستهلكون أو المستفيدون من النظام التربوي وهم التلاميذ وأولياؤهم.

  • الخاتمة 

يعيش المفتشون البيداغوجيون أزمة هوية مهنيّة تندرج ضمن أزمة عامّة تعيشها البلاد. ولئن كانت أزمة المفتشين البيداغوجيين تعود إلى عدّة سنوات مضتْ، فقد تفاقمتْ هذه السنوات الأخيرة. ومن أسبابها القانون الأساسي لإطار التفقد الصادر سنة 2012 الذي حصر عمل المفتشين في الجوانب البيداغوجية وحذف المشمولات الإدارية التي يحتاجها المفتش لتكون كلمته مسموعة وليستطيع ممارسة صلاحياته بأكثر ارتياح وبأكبر قدر من الفاعلية في إطار قيادة الجودة.

ولمعالجة أسباب الأزمة، تحتاج منظومة التفتيش البيداغوجي إلى إصلاح جوهريّ لجعل جهاز التفتيش أداة فاعلة في قيادة الجودة. ويمكن أن يستلهم الإصلاح المنشود من نماذج قيادة الجودة المعمول بها في العديد من الدول وخاصّة منها التي لها أنظمة تربوية ناجحة لكن مع الالتزام بخصوصيات بلادنا.

المفتش البيداغوجي ونظام الجودة

بوابة الموقع

  • Wix Facebook page
  • Google+ Social Icon
  • Wix Twitter page
bottom of page