top of page

رأي بخصوص التقويم الإشهادي في التعليم الابتدائي.


[كشفت وزيرة التربية الوطنية السيّدة نورية بن غبريط على هامش افتتاح امتحانات شهادة البكالوريا 2015 أنّه ابتداء من الموسم القادم ستتغير صيغة امتحان شهادة التعليم الابتدائي الذي يجتازه تلاميذ السنة الخامسة ابتدائي، وتستبدل باختبار إجرائي تقييمي للمرحلة الابتدائية، ويعود السبب حسب الوزيرة لحالة القلق والتوتر الذي تسببه الاختبارات الحالية على تلاميذ في سن 10 سنوات مما يسبب مشاكل نفسية يصعب معالجتها مستقبلا.]

هذا ما تناقلته مختلف وسائل الإعلام. وهذا الموقف من السيّدة وزيرة التربيّة يستحق كلّ الترحيب والتشجيع للخروج به من دائرة الأقوال والتصريحات إلى دائرة الفعل والتجسيد الميداني.

فالخبراء العقلاء من إطارات التربية، وتحديدا من سلك التعليم الابتدائي، لا يرون جدوى بيداغوجية في امتحان شهادة نهاية مرحلة التعليم الابتدائي بالصيغة التي يجري عليها حاليا؛ للاعتبارات التي أوردتها السيّدة وزيرة التربيّة، ولأنّ جانب التهويل والاحترازات، والتشكيك في مهنية وكفاءة أساتذة التعليم الابتدائي، وكذا العامل الاقتصادي النفعي [طبعا لمصلحة الديوان الوطني للامتحانات والمسابقات] هي الجوانب الطاغية على هذا الامتحان الشهائدي، دون الجوانب البيداغوجية الصرفة.

لقد كان المسوّغ لتنظيم امتحان شهادة نهاية مرحلة التعليم الابتدائي ابتداء من سنة 2005، كتجربة أولى مع سنوات السنة السادسة آنذاك، هو الخلل الحاصل في تقويم التلاميذ من طرف المعلمين، واتهامهم:

  • بعدم التحكم الجيّد في بناء الاختبارات وفق المعايير البيداغوجية الصحيحة،

  • اتهام المعلمين بعدم التحكم الجيد في وضع سلّم تصحيح للاختبار،

  • اتهام المعلمين بتضخيم العلامات لغلبة العامل العاطفي في إسناد العلامات.

  • اتهام المشرفين على التعليم الابتدائي [مفتشون، مديرون، أساتذة] بتسهيل عملية النجاح لأعداد كثيرة من التلاميذ والانتقال إلى السنة الأولى متوسط (!)، وهنا يحضرني موقفا لمسؤول مصلحة بفرع الديوان الوطني للامتحانات والمسابقات، ولاية عنابة، في دورة جوان 2005، حين قدّمتُ له محاضر الانتقال للدورة، فتعجّب من نسبة النجاح التي فاقت 83 % بنيل الشهادة لوحدها، وقال لي: " لا أفهم كيف حقّقتم هذه النسبة، هذا شيء كثير، سأعمل على التحقق من نزاهة الامتحان"! وفعلا تمّ تشكيل لجنة ولائية من إداريين بالديوان، ونخبة من المعلمين لإعادة تصحيح وثائق التلاميذ خلال شهر سبتمبر / أكتوبر، في شكل مراقبة بعدية، وكانت النتيجة صادمة لمسؤولي الديوان، حيث أسرّ لي المهندس الذي أشرف على العملية أن التصحيح / المراقبة كشف عن نسبة أعلى في النجاح فاقت 84 % بنيل الشهادة وحدها وليس 83 %.

إنّ أغلب الإصلاحات التعليمية في بعدها المنهاجي، لسنوات 1996، و2003، لم تُخضع بكيفية جدية نظام التقويم الإشهادي ـ كجزء أساسي وحاسم من المنهاج التعليمي ـ لتقويم بيداغوجي علمي ولإصلاح بيداغوجي تحديثي وفعال؛ بحيث لازال هذا النظام التقويمي في معظمه تقليديا واعتباطيا، رغم خطورته وحساسيته الكبيرتين، حيث إنه هو المعيار الحاسم في الحكم على نجاعة وجودة النظام التعليمي ككل (مناهج وبرامج، اختيارات بيداغوجية...)، وعلى نجاعة وفعالية ومردودية الإطارت التربوية بأسلاك التعليم المختلفة.

  • على الرّغم من إجراء عديد التقييمات والتشخيصات لمنظومة التربية والتعليم ببلادنا، فإنه لم يتم تقييم وتشخيص طبيعة واختلالات نظام التقويم والامتحانات في المدرسة الجزائريّة، باعتباره جزء أساسي وحاسم في المنظومة التعليمية.

  • فماهي طبيعة وسلبيات نظام التقويم الإشهادي في المدرسة الجزائريّة؟

  • وماهي علاقته بالمناهج والبرامج والاختيارات البيداغوجية (المنهاج التعليمي ككل)؟

  • وهل ينسجم مع مبادئ الإنصاف والمساواة والموضوعية بالنسبة للتلاميذ؟ [كما تدعو لذلك المقاربة بالكفاءات].

لا يمكن فصل نظام التقويم عن الاختيارات والنماذج البيداغوجية، من جهة، وعن التصورات والتخطيطات والتنظيمات المنهاجية المعتمدة؛ فإذا كان المنهاج التعليمي الحالي قد هُندس انطلاقا من اختيارات بيداغوجية تقوم على: بيداغوجيا الكفاءات (البيداغوجيات الحديثة والفعالة)، والتربية على المواطنة، والتربية على القيم؛ وتقوم كذلك على هدف مركزي: جعل التلميذ محور كل العمليات والتدخلات التعليمية، ليكون فردا فعالا (مبدعا، مبتكرا، ناقدا، منتجا...) ليساهم في النهضة العلمية والتكنولوجية لوطنه، من أجل مساهمته في التنمية المجتمعية الشاملة...فإن نظام التقويم الإشهادي لا تعكس هذه الأهداف والاختيارات البيداغوجية والاجتماعية؛ إذ نلاحظ أن جل التقويمات الإشهادية لازالت تقليدية [تأمّل بناء اختبار اللغة العربيّة، بما يمثله من ثقل وحشو لا يجدي معه نفعا] حيث تحكمها برادغمات واختيارات البيداغوجيا التقليدية المتمركزة على المضامين والذاكرة (استرجاع المعلومات والمضامين الدراسية)،من خلال وضعيات تقييمية تستهدف اختبار القدرة على استرجاع المعلومات والمضامين، عوض وضعيات تقييمية تستهدف الكفاءات العالية والفعالية الذاتية للمتعلم ؛إضافة إلى اعتباطية منهجية التقويم ومعايير التصحيح وسُلم التنقيط.

كما أن المواد المستهدفة بالتقويم يغلب عليها التضييق [بتحديد مواد ثلاث سميّت لغات] والإقصاء لمواد القيم التي تعتبر بوابة لاكتساب القيم والمواطنة الحقّة، مثل مادة التربية الإسلامية ومادة التاريخ الوطني. إنصافا للمنهاج الذي تتسع مساحة حديثه عن القيم المختلفة التي يدعو إلى تنميتها وتمثلها، في مختلف السنوات الدراسية، واستحضارا للأهداف والغايات التربوية الأساسية، المرصودة في المنهاج كان من الممكن أن يمتحن المتعلّم في مواد القيم أيضا شأنه شأن شهادة التعليم المتوسط والثانوي.

كما أنه يمكننا أن نتساءل:

هل تم تحديد نوع الاختبار الشهائدي ومضمونه بناء على كفاءات ختامية يراد تحقيقها فعلا، أم تقويم موارد منفصلة سبق للمتعلم تحصيلها؟

مثلا في اختبار اللغة العربيّة لنهاية مرحلة التعليم الابتدائي [السنة الخامسة ابتدائي] يمتحن المتعلم من خلال سند، هو النص المختار، الذي يشفع بأسئلة تنقسم إلى أسئلة الفهم للمعنى العام، وأسئلة لفهم البناء. ثم الوضعية الإدماجية، التعبير الكتابي [مجازا تسمى وضعية إدماجية]

  • ما قيمة النص السند طالما أن المتعلم الممتحن لا يتعامل معه، في جزء الفهم، إلا من خلال سؤالين لا أكثر: سؤال حول إنتاج عنوان للنص، وسؤال عن الفهم العام للنص. فهل اختبار المتعلم في اللغة العربية، ومدى امتلاكه لناصية الكفاءة التواصلية [وهي الكفاءة المستهدفة في نهاية كل مرحلة من مراحل التعليم] يكون بمثل هذا البناء من الاختبارات؟

كما نود طرح مسألة حيوية تتعلق بمنهجية التقويم التي تطغى عليها خلفيات البيداغوجيا التقليدية؛ إذ نجد أغلب الوضعيات التقويمية تستهدف القدرة على استرجاع وحفظ المعلومات، والأسئلة النمطية والتقريرية والأحادية، والاهتمام فقط بالمعرفة كنتاج...في حين أنّ المقاربات البيداغوجية الحديثة في التقويم تعتمد المدرسة المعرفية (الاهتمام خاصة بسيرورة وآليات إنتاج وبناء المعرفة)، فإن منهجية بناء الوضعيات التقويمية تستهدف خاصة كفاءات وقدرات التلميذ (خصوصا القدرات الذهنية العليا: التحليل، التركيب، التقييم...)، وسيرورة إنتاج المعرفة، ومدى قدرة التلميذ على استثمار وتوظيف مكتسباته الدراسية ومختلف المصادر المعرفية في حل وضعية مُركبة (وضعية مشكلة) أو القيام بمهام وأداءات مُركبة. لأن المطلوب الآن (عصر الانفجار المعرفي وتضخم المصادر المعرفية في بعدها المعلوماتي) هو كيفية توظيف واستثمار المكتسبات المعرفية في حل المشكلات. أي المطلوب هو فرد/ مواطن فعّال ومنتج ومساهم أساسي وضروري في مشروع التنمية والتقدم والقيم الوطنية والإنسانية.

وعليه، فإن المنهاج التربوي يجب أن يبنى على هذه الأهداف والاختيارات الاستراتيجية، ومنه يجب بناء وضعيات تقويمية تستهدف فعالية التلميذ وقدراته الذاتية، من خلال وضعيات ومهام مُركبة، ونترك له حرية استعمال مختلف الوثائق والمصادر الدراسية وغيرها، عوض إرهاقه بحفظ تلك الأطنان من المقررات الدراسية.

مثلا في اللغة العربيّة لماذا لا يكتفى بإنتاج كتابي يروم تحقيق الكفاءة الختامية للسنة الخامسة، بدل إثقال المتعلم بنص من كذا أسطر مشفوع بأسئلة أغلبها لا صلة لها بالنص السند.

هذا الاختيار المنهجي سيعفينا من مشاكل الغش و "التحراز" والعنف التي ترتفع حدتها مع كل امتحان اشهادي.


والخلاصة التي ننتهي إليها:

أنّ واقع التقويم الإشهادي بالمدرسة الجزائريّة مريض، في وضعياته وتقنياته وأهدافه ومعاييره التصحيحية، ولا ينسجم مع نموذج بيداغوجيا الكفاءات، ويجب التفكير بعمق وجدّ في تشخيص الدّاء والبحث عن العلاج المناسب.

وعليه يكون أساس وبداية العلاج للامتحانات الشهائدية من هنا:

  • إخراج الامتحان الشهائدي للتعليم الابتدائي من قبضة وتحكّم الديون الوطني للامتحانات والمسابقات، وإسناده إلى مديريات التربية بالولايات، تحت وصاية مديرية التعليم الأساسي، أو المفتشية العامة. فما تمّ ملاحظته أن الديوان الوطني للامتحانات والمسابقات قد مدّ اليد الطولى على كل جوانب هذا الامتحان؛ إداريا وتربويا وبيداغوجيا. وهذا شأن يتنافى وطبيعة هذا الامتحان. ولعل من مظاهر الخلل الناتجة عن هذا المسعى الخاطئ ما يتردد من أخطاء في بناء مواضيع الاختبار تارة مطبعية وتارة أخرى علمية ... لأن الرّجال الذين تسند لهم مهمّة الإعداد يُختارون بحسب معرفة مسؤولي الديوان الشخصية لهم، لا بتوجيه من الجهات الوصية [مدير التربية، أو مفتش التربية الوطنية.]، وما قلتُه في تعيين لجان التأليف للاختبارات أقوله في الذين يستدعون لعملية التصحيح، فالأمور لا تجري وفق موضوعية علمية وكفاءة مهنية، وإنما حسب الأهواء والمعارف الضيّقة. إذ يهمّش أستاذ يدرّس قسم السنة الخامسة من التصحيح ويُدعى له نائب مدير، كما حصل هذه السنة بولاية عنابة.

  • بناء الثقة في الإطار التربوي للمدارس الجزائرية، والكف عن تخوينه في أداء الأمانة، تارة بتضخيم العلامات، وطورا بإهداء النجاح لمن لا يستحقه. هذه الثقة يجب أن تنمى وتعزّز بتكوين جدّي ذي جودة عالية، وتحميل الإطار التربوي المسؤولية كاملة عن التحصيل ونتائج التحصيل، مع تفعيل الشق التأديبي والمكافأة، إعمالا لمبدأ : نكافئ المُحسن ونقول له [أحسنتَ]، ونزجر ونعاقب من يخطئ، ونقول له [أسأتَ] إعمالا لمتطلبات العمل التربوي الذي يستلزم الجدية والنزاهة والهمة العالية، واستحضارا للأمانة التي يحملها كل أستاذ(ة)في صفّه. بعيدا عن العاطفة الزائفة أو عقلية الدشرة والجهة والدوّار، التي أضرّت كثيرا بمصداقية مهنة التعليم ورجاله، فأصبح الأستاذ الجاد والمهمل في سلّة واحدة.

هذه الثقة لها مكاسب ثمينة على مستوى المردود التربوي وعلى مستوى المكانة التي سيحظى بها إطار التربية اجتماعيا، ثم على مستوى تنظيم الامتحانات، حيث يمكن أن يمتحن المتعلم في مدرسته دون أن يُنقل تعسفا إلى مدارس أخرى، كما يمكن أن يحرس الأستاذ في مدرسته نفسها، دون أن يُنقل إجباريا إلى مدرسة أو متوسطة في غير بلدية أو دائرة عمله. ثمّ تلغى تدريجيا الإجراءات الإدارية في تجنيد الحرّاس من الأساتذة، وتعطيل الدراسة لمدة ثلاثة أسابيع، من شهري ماي وجوان، هي حقّ المتعلّم في الاكتساب المعرفي، كما تلغى هذه المحتشدات التي تسمى [مراكز تجميع أو مراكز تصحيح] والتي تكلّف الدولة مليارات الدينارات سنويا، دون فائدة ملموسة.

فما المانع من أن يجرى الامتحان الشهائدي في مؤسسة الدراسة للمتعلم؟ وما الذي يمنع من أن يكون أساتذة المدرسة نفسها هم الحرّاس، إذا تمّ الاتمان فيهم وتحميلهم المسؤولية. هذا ليس ضربا من الأماني والأحلام، هي حقيقة يمكن أن تتجسّد لو احترمنا إطارنا التربوي، وثقنا في قدراته وأمانته. وما العُرف الجاري به العمل في امتحانات المغرب الشقيق علينا ببعيد!

  • اعتماد بيداغوجيا الإدماج ـ التي هي إطار منهجي لتطبيق بيداغوجيا الكفاءات ـ في الاختبارات الشهائدية. هنا أتساءل: لماذا تم إبعاد الوضعيات المركّبة (وضعيات الإدماج) من الامتحانات الشهائديّة؟

هذه البيداغوجيا ـ خصوصا في بعدها التقويمي ـ تلتزم بمبدأ الموضوعية والإنصاف، حيث إن المعايير التصحيحية المعتمدة وفق هذه البيداغوجيا تحترم الاتجاهات الحديثة والمنصفة في التقويم، وُتقوم كفاءات المتعلم ومصادره (المعارف، المهارات، القدرات العقلية...) ومكتسباته الفردية، كما تدعو إلى ضرورة بناء وتقويم الكفاءات والمواد الأساسية (هذا ما لا يعكسه التنزيل الجزائري بدقة).

  • إعداد جهاز تكوين لجميع الأساتذة يستهدف بيداغوجيا التقويم، وخصوصا الإشهادي، حيث أصبحت الدوسيمولوجيا (علم التنقيط) مكوّنا أساسيا من مكونات علوم التربية الحديثة وضرورة تكوينية وتثقيفية للممارسيين التربويين؛ فمن لا يمارس التقويم كعلم فإنه قد يسقط في الاعتباطية والارتجالية، وقد يمس حقوق التلاميذ في تقويم موضوعي ومنصف.

  • الاستثمار الأمثل لنتائج التقويمات الإشهادية لتقويم المناهج والبرامج وبناء خطط للدعم البيداغوجي، وعدم الاكتفاء فقط بإعلان النتائج والنسب المئوية للناجحين، والرّاسبين، وترتيب المؤسسات...وهذا يفرغ التقويم من أهدافه البيداغوجية الحقيقية.


Featured Posts
Recent Posts
bottom of page