top of page

التكوين المستمر، وضرورة البحث التربوي المبدع

التكوين المستمر ضرورة مهنية كانت وما تزال تجعل منه أداة نحو الارتقاء بمهنة التدريس وكفاءاته عبر مواكبة المستجدات التربوية ومختلف الإصلاحات الكبرى التي يعرفها نظامنا التربوي. غير أن السؤال الذي يطرح الآن: هل التكوين التحضيري البيداغوجي، والتكوين المستمر بصيغتهما الحالية وبمعاييرهما المعتمدة الراهنة يستجيبان فعلا لما ينتظره الأساتذة المتدربين والمرسمين في أفق إعداد متعلم فاعل ومندمج، بمعنى قادر على الاندماج في المسار التنموي للبلاد كما هو هدف كل سياسة تعليمية مواطنة، جادة وحكيمة؟


من حيث المبدأ أن إطلاق تكوين فاعل يصب في خدمة التلميذ ويتيح تنمية شخصيته، لا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا أخذ بعين الاعتبار انشغالات الأساتذة الحقيقية وحاول في نفس الوقت أن يؤمّن حلا شاملا لمجمل المشكلات المهنية التي تعترض سبيلهم. فتكوين من هذا النوع من شأنه تحقيق الرهان: (توفير أساتذة يعملون في ظروف مواتية، وعلى إلمام واسع بالطرق البيداغوجية اللازمة لممارسة مهامهم).


ملاحظات تقويمية حول تجارب التكوين المعتمدة في الميدان.


الملاحظة الأولى:

أن العروض التكوينية التي يتم تقديمها خلال دورات التكوين المستمر تبقى وحيدة الجانب ولا تراهن الا على المقاربة الديداكتيكية. ذلك أن التكوين المستمر ، بوصفه الحالي، يراهن على جانب مهم في مهنة التدريس جانب (( ديداكتيك المواد و تقويم التعلمات )) ، و تحديدا التركيز على تحسيس الفئات المستهدفة بأهمية المقاربة الجديدة حول التدريس ، و نعني بها مقاربة التدريس بالكفاءات و ما يقترن بها من تفاصيل حول ما يسمى ببيداغوجيا الإدماج و أليتهما في عملية التقويم، و على الرغم من أهمية ذلك ، فالملاحظ أنه تكوين يختزل مهنة التدريس و جملة العوامل الاخرى المؤسسة للفعل البيداغوجي في هذا المتغير فحسب ، من غير اعتبار للمتغيرات الأخرى ذات التأثير القوي و المباشر المتمثلة في الجانب التنشيطي و إدارة القسم، و الجانب الاجتماعي و الإنساني، و التي قد يؤدي تغييبها و عدم اعتبار أهميتها إلى ضعف الأداء، و انخفاض جودة العرض التربوي.


إن مهنة التدريس ليست فعلا ديداكتيكيا محضا يقوم على تنمية كفاءات التعلم لدى التلميذ بمعزل عن العلاقات الأخرى ، و لكنها أيضا فعل تربوي و علاقة تواصلية ترتكز على قدرة الأستاذ على مدى تحفيز التلميذ على التعلم من خلال كفاءته التنشيطية ، و قدرته على توفير المناخ المناسب لتدبير الأنشطة التعليمية عبر إدارة أشكال الحوار التربوي ، و قيادة التدريس بواسطة أسلوب الورشات، و إعداد ملفات للبحث ، و إدماج تكنولوجيا المتعددة الوسائط ، و استعمال الوثائق السمعية البصرية ، و الأساليب الفاعلة في القيادة و السيطرة على السلوكات المخلة ، و المواقف التي تهدد حفظ النظام داخل الفصل الدراسي ، كما أنها علاقة اجتماعية و إنسانية تهدف إلى متابعة أحوال التلميذ النفسية و الاجتماعية و الجسدية بتقديم ما يلزم من الدعم المعنوي من اجل الدفع به إلى تجاوز أوضاعه النفسية و الاجتماعية و الإنسانية الصعبة، و هي عوامل و إن كانت لها ايجابيات على مستوى التواصل مع الآخر ، و إغناء الخبرة عبر الاحتكاك به ، إلا أنها لا تخلو من سلبيات تنعكس آثارها بشكل مدمر على الناشئة و قدرتها على الاندماج .

فقد لوحظ في السنين الأخيرة بسبب الأوضاع الاجتماعية المعقدة لبعض الفئات تزايد نسب الإحباط وانعدام الثقة بجدوى الدراسة، والتهاون بقيم المدرسة، والغياب المتكرر، والدخول المتأخر، وإتلاف المرافق ومستلزمات الدراسة، وعدم إحضار الأدوات المدرسية، والكتابات المخلة على الجدران التي تعكس مشاعر السخط، وحالات القلق النفسي والاجتماعي.


لأجل هذا، يبدو أنه أصبح من الضروري إعادة النظر في المعايير المعتمدة في صياغة برامج التكوين التحضيري البيداغوجي، وبرامج التكوين المستمر، وإعادة ترتيب الأولويات على مستوى المشكلات الواجب طرحها للنقاش أثناء هذا التكوين. وذلك باعتماد تصور شمولي ومندمج تؤسس عليه محتويات التكوين: تصور يشمل جملة المقاربات الشريكة والمكملة للمقاربة الديداكتيكية، وأعني بها المقاربة التنشيطية التي تسمح لنا بمواكبة الجديد في مجال تنشيط القسم وأشكال تسيير أنشطة التعلم والقدرة الجيدة على قيادة مجموعة القسم، والمقاربة الاجتماعية الإنسانية المعبر عنها بتحسين الحياة المدرسية لمواجهة الحالات الإنسانية الصعبة التي تعوق التلميذ وتشل طاقاته عن مواصلة التعلم بأكبر ما يمكن من الفعالية والإبداع.


الملاحظة الثانية:


أن العروض التكوينية الراهنة في موضوع (ديداكتيك المواد) المقدمة لحد الساعة يطغى عليها الجانب النظري، يطغى عليها الخطاب اللفظي وتفتقر إلى ابداع نموذج عملي موحد قابل للتطبيق ومتكيف. أما العروض العملية المبتكرة التي يتم تطويرها عبر البحوث الإجرائية و مختبرات البحث التربوي الميداني ، ثم تصبح " نماذج عملية مبدعة و قابلة للتطبيق" و موضوعا لأعمال ورشات و تداريب تكوينية ، أو منطلقا لإنتاج نماذج جديدة تكون أكثر ملاءمة لشروط العمل الميداني بإكراهاته ، فهي منعدمة و غائبة بالمرة ، الشيء الذي يؤدي إلى تضييع الكثير من الوقت في مقابل استفادة نظرية يمكن وصفها بأنها لا تلبي انتظارات الأساتذة ، و بخاصة الجدد منهم، في ظل الظروف الصعبة التي أصبحت تمر منها الممارسة التربوية حاليا .


(العروض التكوينية النظرية) على مستوى مقاطعات التفتيش ما زالت لدى منجزيها لم تأخذ مطلقا بمبدأ ضرورة الربط و التكامل بين التدريس (( كتصور نظري )) يجب التخطيط له على بطاقات التحضير و خطط العمل ، و بين إمكانية التنزيل المتاحة لما هو تصور نظري في سياق ظروف ميدانية تحيط بها مجموعة من الاكراهات و المتغيرات المحبطة التي تهدد كل مرة بفشل كل ما تم إعداده على مستوى التصور و التخطيط .


إن المشاكل الحقيقية التي ينبغي أن ينصب عليها التكوين هي كيف يمكن أن نجوّد العرض التربوي ونعزز كفاءات الأساتذة، ونرفع بالتالي من مستوى التعلمات وسط ظروف تربوية ميدانية معقدة تتسم بإكراهات ومعوقات حادة هي كالآتي:

1 ـ الاكتظاظ، داخل القسم الواحد

2 ـ التدني الخطير للمستوى المعرفي و قدرات التعلم نتيجة ضغط البرنامج، وضغط الوتيرة المدرسية.

3 ـ الضعف الخطير على مستوى الكفاءات اللغوية التي تشمل القدرة على القراءة والكتابة، وهو ما أشارت إليه بمرارة تقارير ميدانية.

4 ـ وجود نسبة شحن في المقررات لا تتناسب مع الغلاف الزمني المخصص لإنجازها، مما يفرض تسريع الإيقاع في تناول مشكلات الدروس وفرضياتها بشكل غير طبيعي، يسقط الاستاذ في مغبة التعامل مع محتوياتها بكثير من السطحية.


تلك هي الإشكالات الحقيقة لمهنة التدريس، وتلك هي المشكلات العويصة التي يتعين على التكوين المستمر أن يجيب عنها، نريد تكوينا بمعايير تلبي حاجيات الأساتذة ويعزز كفاءاتهم من خلال البحث عن صيغ واقعية للتعامل مع هذه المشكلات، ونماذج ديداكتيكية تتلاءم والواقع المعقد الذي تمارس فيه مهنة التدريس، وإذا ما تحقق هذا الهدف، آنذاك يمكننا أن نتحدث بارتياح وثقة كاملة عن تكوين مستمر ناجح يستجيب للانتظارات ويمهد بكيفية جادة لإرساء ما أصبح مصطلحا عليه بمدرسة النجاح أو الجودة.



Featured Posts
Recent Posts
bottom of page